الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقيل: التحية البقاء الدائم والملك العظيم؛ والأظهر أنهما بمعنى واحد، وأنهما من قبل الله تعالى؛ دليله قوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ} [الأحزاب: 44] وسيأتي.{خَالِدِينَ} نصب على الحال {فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}.قوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ} هذه آية مشكلة تعلقت بها الملحدة.يقال: ما عبأت بفلان أي ما باليت به؛ أي ما كان له عندي وزن ولا قدر.وأصل يعبأ من العِبء وهو الثقل.وقول الشاعر:
أي يجعل بعضه على بعض.فالعبء الحمل الثقيل، والجمع أعباء.والعبء المصدر.وما استفهامية؛ ظهر في أثناء كلام الزجاج، وصرح به الفراء.وليس يبعد أن تكون نافية؛ لأنك إذا حكمت بأنها استفهام فهو نفي خرج مخرج الاستفهام؛ كما قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان} [الرحمن: 60] قال ابن الشجري: وحقيقة القول عندي أن موضع {ما} نصب؛ والتقدير: أيّ عِبء يعبأ بكم؛ أي أيّ مبالاة يبالي ربي بكم لولا دعاؤكم؛ أي لولا دعاؤه إياكم لتعبدوه، فالمصدر الذي هو الدعاء على هذا القول مضاف إلى مفعوله؛ وهو اختيار الفراء.وفاعله محذوف وجواب لولا محذوف كما حذف في قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الجبال} [الرعد: 31] تقديره: لم يعبأ بكم.ودليل هذا القول قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فالخطاب لجميع الناس؛ فكأنه قال لقريش منهم: أي ما يبال الله بكم لولا عبادتكم إياه أن لو كانت؛ وذلك الذي يعبأ بالبشر من أجله.ويؤيد هذا قراءة ابن الزبير وغيره.{فَقَدْ كَذَّبَ الْكَافِرُونَ} فالخطاب بما يعبأ لجميع الناس، ثم يقول لقريش: فأنتم قد كذبتم ولم تعبدوه فسوف يكون التكذيب هو سبب العذاب لزامًا.وقال النقاش وغيره: المعنى؛ لولا استغاثتكم إليه في الشدائد ونحو ذلك.بيانه: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ} [العنكبوت: 65] ونحو هذا.وقيل: {مَا يَعْبَأُ بِكُمْ} أي بمغفرة ذنوبكم ولا هو عنده عظيم {لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ} معه الآلهة والشركاء.بيانه: {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُم} [النساء: 147]؛ قاله الضحاك.وقال الوليد بن أبي الوليد: بلغني فيها أي ما خلقتكم ولي حاجة إليكم إلا تسألوني فأغفر لكم وأعطيكم.وروى وهب بن مُنبّه أنه كان في التوراة: «يا ابن آدم وعزتي ما خلقتك لأربح عليك إنما خلقتك لتربَح عليّ فاتخذني بدلًا من كل شيء فأنا خير لك من كل شيء».قال ابن جِنِّي: قرأ ابن الزبير وابن عباس: {فَقَدْ كَذَّبَ الْكَافِرُونَ}.قال الزهراوي والنحاس: هي قراءة ابن مسعود وهي على التفسير؛ للتاء والميم في {كَذَّبْتُمْ}.وذهب القتبي والفارسي إلى أن الدعاء مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف، الأصل لولا دعاؤكم آلهة من دونه؛ وجواب {لَوْلاَ} محذوف تقديره في هذا الوجه: لم يعذبكم.ونظير قوله: لولا دعاؤكم آلهة قوله: {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194].{فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} أي كذبتم بما دعِيتم إليه؛ هذا على القول الأول؛ وكذبتم بتوحيد الله على الثاني.{فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} أي يكون تكذيبكم ملازمًا لكم.والمعنى: فسوف يكون جزاء التكذيب كما قال: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا} [الكهف: 49] أي جزاء ما عملوا وقوله: {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنفال: 35] أي جزاء ما كنتم تكفرون.وحسن إضمار التكذيب لتقدّم ذكر فعله؛ لأنك إذا ذكرت الفعل دلّ بلفظه على مصدره، كما قال: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} [آل عمران: 110] أي لكان الإيمان.وقوله: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} أي يرضى الشكر.ومثله كثير.وجمهور المفسرين على أن المراد باللزام هنا ما نزل بهم يوم بَدْر، وهو قول عبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب وأبي مالك ومجاهد ومقاتل وغيرهم.وفي صحيح مسلم عن عبد الله: وقد مضت البطشة والدخان واللزام.وسيأتي مبينًا في سورة الدخان إن شاء الله تعالى.وقالت فرقة: هو توعد بعذاب الآخرة.وعن ابن مسعود أيضًا: اللزام التكذيب نفسه؛ أي لا يعطون التوبة منه؛ ذكره الزهراوي؛ فدخل في هذا يوم بَدْر وغيره من العذاب الذي يُلزَمونه.وقال أبو عبيدة: لزامًا فيصلًا أي فسوف يكون فيصلا بينكم وبين المؤمنين.والجمهور من القراء على كسر اللام؛ وأنشد أبو عبيدة لصخر: ولزاما وملازمة واحد.وقال الطبري: {لِزَامًا} يعني عذابًا دائمًا لازمًا، وهلاكًا مفنيًا يلحق بعضكم ببعض؛ كقول أبي ذؤيب: يعني باللزام الذي يتبع بعضه بعضًا، وباللقيف المتساقط الحجارة المتهدم.النحاس: وحكى أبو حاتم عن أبي زيد قال: سمعت قَعْنَبا أبا السَّمَّال يقرأ: {لَزَاما} بفتح اللام.قال أبو جعفر: يكون مصدر لزِم والكسر أولى، يكون مثل قِتال ومقاتلة، كما أجمعوا على الكسر في قوله عز وجل: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} [طه: 129].قال غيره: اللِّزام بالكسر مصدر لازم لِزامًا مثل خاصم خصامًا، واللَّزام بالفتح مصدر لَزِم مثل سَلِم سلامًا أي سلامة؛ فاللَّزام بالفتح اللّزوم، واللِّزام الملازمة، والمصدر في القراءتين وقع موقع اسم الفاعل، فاللزام وقع موقع ملازم، واللَّزام وقع موقع لازِم.كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْرًا} [الملك: 30] أي غائرًا.قال النحاس: وللفراء قول في اسم يكون؛ قال: يكون مجهولًا وهذا غلط؛ لأن المجهول لا يكون خبره إلا جملة، كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ} [يوسف: 90] وكما حكى النحويون كان زيد منطلق ويكون المبتدأ وخبره خبر المجهول، والتقدير: كان الحديث، فأما أن يقال كان منطلقًا، ويكون في كان مجهول فلا يجوز عند أحد علمناه.وبالله التوفيق وهو المستعان والحمد لله رب العالمين. اهـ.
|